فصل: تفسير الآيات (88- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (80- 83):

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}
أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء، وذلك لأنهم ليسوا بأهل لاستغفاره صلى الله عليه وسلم، ولا للمغفرة من الله سبحانه لهم، فهو كقوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} [التوبة: 53]، ثم قال: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين، وإن أكثر النبي من الاستغفار لهم، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولاً، كما في سائر مفاهيم الأعداد، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول. فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى: أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفاراً بالغاً في الكثرة، غاية المبالغ، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه، ويدل لذلك ما سيأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأزيدنّ على السبعين» وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً فقال: إن السبعة عدد شريف؛ لأنها عدد السموات، والأرضين، والبحار، والأقاليم، والنجوم السيارة، والأعضاء، وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: خصت السبعون بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبر على عمه الحمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإذاء تكبيراتك على حمزة. وانتصاب {سبعين} على المصدر كقولهم: ضربته عشرين ضربة. ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: ذلك الامتناع بسبب كفرهم بالله ورسوله {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي: المتمرّدين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها، والمراد هنا: الهداية الموصلة إلى المطلوب، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين، فقال: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله} المخلفون: المتروكون، وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم الله وثبطهم، أو الشيطان، أو كسلهم، أو المؤمنون، ومعنى {بِمَقْعَدِهِمْ} أي: بقعودهم يقال: قعد قعوداً ومقعداً: أي جلس، وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح: أي فرح المخلفون بقعودهم، وخلاف رسول الله منتصب على أنه ظرف لمقعدهم. قال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف: أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف.
وقال قطرب والزجاج: معنى خلاف رسول الله: مخالفة الرسول حين سار وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له: أي قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال مثل: وأرسلها العراك: أي مخالفين له، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة {خلف رسول الله}.
قوله: {وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} سبب ذلك الشحّ بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان، وداعي الإخلاص، ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم، وانتفاء الصارف عنهم {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ في الحر} أي: قال المنافقون لإخوانهم هذه المقالة تثبيطاً لهم، وكسراً لنشاطهم، وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} والمعنى: أنكم أيها المنافقون كيف تفرّون من هذا الحرّ اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشدّ حرّاً مما فررتم منه، فإنكم إنما فررتم من حرّ يسير في زمن قصير، ووقعتم في حرّ كثير في زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
فكنت كالساعي إلى مثعب ** موائلاً من سبل الراعد

وجواب {لو} في {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} مقدّر، أي: لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا.
قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} هذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً، ويبكون كثيراً، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر، للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، وقليلاً كثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية: أي ضحكاً قليلاً، وبكاءً كثيراً، أو زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً {وَجَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، وانتصاب {جزاء} على المصدرية: أي يجزون جزاء {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} الرجع متعدّ كالردّ، والرجوع: لازم، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وإنما قال: {إلى طَائِفَةٍ} لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك، وقيل: إنما قال: {إلى طائفة} لأن منهم من تاب عن النفاق، وندم على التخلف {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه {فَقُلْ} لهم: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} أي: قل لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد، كما تقدم في قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47]، وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين، وقرئ بسكونها فيهما، وجملة: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} للتعليل، أي لن تخرجوا معي، ولن تقاتلوا، لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أوّل مرّة، وهي غزوة تبوك، والفاء في {فاقعدوا مَعَ الخالفين} لتفريع ما بعدها على ما قبلها، والخالفين جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم: من تخلف عن الخروج، وقيل: المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين.
من قولهم: فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم، من قولك: خلف اللبن: أي فسد بطول المكث في السقاء. ذكر معناه الأصمعي، وقرئ: {فاقعدوا مع الخلفين} وقال الفراء: معناه: المخالفين.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عروة أن عبد الله بن أبيّ قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] فأنزل الله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأزيدنّ على السبعين» فأنزل الله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [المنافقون: 6].
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، نحوه.
وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والنحاس، وابن حبان، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، فلما وقف قلت: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدد أيامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: «يا عمر أخر عني، إني قد خيرت، قد قيل لي: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له، لزدت عليها» ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره، حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عزّ وجلّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {فَرِحَ المخلفون} الآية قال: عن غزوة تبوك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفروا في الحرّ، فقال الله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} فأمره بالخروج.
وأخرج ابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، يقول الله: فليضحكوا قليلاً في اللدنيا، وليبكوا كثيراً في الآخرة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، وفيهم قيل ما قيل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فاقعدوا مَعَ الخالفين} قال: هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}
قوله: {مَّاتَ} صفة لأحد، و{أَبَدًا} ظرف لتأييد النفي. قال الزجاج: معنى قوله: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره، ودعا له، فمنع ها هنا منه؛ وقيل: معناه: لا تقم بمهمات إصلاح قبره، وجملة: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ} تعليل للنهي. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، والكذب، والنفاق، والخداع، والجبن، والخبث، مستقبحة في كل دين. ثم نهى رسوله عن أن تعجبه أموالهم وأولادهم. وهو تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه؛ وقيل: إن الآية المتقدّمة في قوم، وهذه في آخرين. وقيل: هذه في اليهود، والأولى: في المنافقين. وقيل: غير ذلك.
وقد تقدّم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية.
ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين، فقال: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي: من القرآن، ويجوز أن يراد بعض السورة، وأن يراد تمامها؛ وقيل: هي هذه السورة: أي سورة براءة، و(أن) في {أَنْ آمِنُواْ بالله} مفسرة لما في الإنزال من معنى القول، أو مصدرية حذف منها الجارّ: أي: بأن آمنوا، وإنما قدّم الأمر بالإيمان، لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان: {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} أي: ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولاً، كذا قال ابن عباس والحسن، وقال الأصمّ: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم، إذ لا عذر لهم في القعود {وَقَالُواْ ذَرْنَا} أي اتركنا {نَكُنْ مَّعَ القاعدين} أي: المتخلفين عن الغزو من المعذورين، كالضعفاء والزمنى، والخوالف: النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت. جمع خالفة، وجوّز بعضهم أن يكون جمع خالف، وهو من لا خير فيه: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} هو كقوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] وقد مرّ تفسيره {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} شيئاً مما فيه نفعهم وضرهم، بل هم كالأنعام.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول، أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: «إن ربي خيرني وقال: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} وسأزيد على السبعين» فقال: إنه منافق، فصلى عليه، فأنزل الله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} الآية، فترك الصلاة عليهم.
وأخرج ابن ماجه، والبزار، وابن جرير، وابن مردويه، عن جابر، قال: مات رأس المنافقين بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكفنه في قميصه، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك، فصلى عليه وألبسه قميصه وقام على قبره، فأنزل الله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مرديه، عن ابن عباس، في قوله: {أُوْلُواْ الطول} قال: أهل الغنى.
وأخرج هؤلاء، عن ابن عباس، في قوله: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} قال: مع النساء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في الآية قال: رضوا بأن يقعدوا كما قعدت النساء.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: الخوالف النساء.

.تفسير الآيات (88- 89):

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}
المقصود من الاستدراك بقوله: {لكن الرسول} إلى آخره: الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية كما في قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} [الأنعام: 89].
وقد تقدّم بيان الجهاد بالأموال والأنفس، ثم ذكر منافع الجهاد فقال: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات} وهي: جمع خير، فيشمل منافع الدنيا والدّين، وقيل: المراد به: النساء الحسان، كقوله تعالى: {فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ومفرده خيرة بالتشديد، ثم خففت مثل هينة وهينة: وقد تقدّم معنى الفلاح، والمراد به هنا: الفائزون بالمطلوب، وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم، والجنات: البساتين.
وقد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها، وبيان الخلود والفوز، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من الخيرات والفلاح، وإعداد الجنات الموصوفة بتلك الصفة، ووصف الفوز بكونه عظيماً يدلّ على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز.
وقد أخرج القرطبي في تفسيره، عن الحسن أنه قال: الخيرات: هنّ النساء الحسان.

.تفسير الآية رقم (90):

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}
قرأ الأعرج والضحاك {المعذرون} بالتخفيف، من أعذر، ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال في الصحاح: وكان ابن عباس يقرأ: {وجاء المعذرون} مخففة من أعذر، ويقول: والله هكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها على الكلبي، وهي من أعذر: إذا بالغ في العذر، ومنه: من أنذر فقد أعذر أي: بالغ في العذر. وقرأ الجمهور {المعذرون} بالتشديد ففيه وجهان، أحدهما: أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال، وهم: الذين لهم عذر، ومنه قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

فالمعذرون على هذا: هم المحقون في اعتذارهم.
وقد روي هذا عن الفراء، والزجاج، وابن الأنباري، وقيل: هو من عذّر، وهو الذي يعتذر ولا عذر له، يقال عذر في الأمر: إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف؛ فالمعذرون على هذا: هم المبطلون، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها.
وروي عن الأخفش، والفراء، وأبي حاتم، وأبي عبيد، أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع. والمعنى: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين؛ لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الغزو، وطائفة أخرى لم يعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر، وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله، ولم يؤمنوا ولا صدّقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي: من الأعراب، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذين لم يعتذروا، بل كذبوا بالله ورسوله {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: كثير الألم، فيصدق على عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة.
وقد أخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} أي: أهل العذر منهم.
وروى ابن أبي حاتم، عنه، نحو ذلك.
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه أيضاً أنه كان يقول: «لعن الله المعذرين» ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد: هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن إسحاق، في قوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء؛ وقيل: لهم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا، ومواشينا.